بقلم : هدى عزت حتقواي
ما سأرويه ليس مما قرأت او شاهدت و انما منقول عن شاهدة عيان روت لي ما حدث بظهر يوم الجمعة 20 تموز عام 1951! عادت بها ذكريات نصف قرن الى الوراء لتروي تلك اللحظة التي هرعت بها كطفلة خائفة مرتعدة تحولت ضحكاتها و لهوها هلعا بعد سماعها الطلقات النارية و الدخان المنبعث حولها و ملأ الخوف قلبها الصغير ذعرا و صرخت مستنجدة و ألقت بنفسها بأحضان والدتها قائلة : لقد قُتل الملك ! لم يعبأ بتحذيرات السفير الأمريكي له و تحذيره بمؤامرة تحاك للنيل منه ولم يكثرت لوفرة اعدائه و التحديات التي كانت تحيط به من كل حدب وصوب فالإنجليز و اطماعهم من جهة و اختلاف وجهات النظر مع الزعامات الفلسطينية من جهة و خطر الإمتداد الصهيوني من جهة و صراع العروش العربية (مصر و السعودية) من جهة أخرى ناهيك عن مهامه كملك يسعى لحماية عرشه داخل مملكة حديثة قليلة الموارد ضعيفة الإمكانيات (حينها) . رغم جميع النصائح من الجميع بعدم الذهاب والمخاطرة بحياته و لكن الملك عبد الله الأول(رحمه الله) أصر على أن يواجه مصيره و قدره المحتوم و لم يتوانى عن القيام بعادته بأداء شعائر صلاة الجمعة في المسجد الأقصى بالقدس مصطحبا معه حفيده (الامير حسين )الذي لم يتجاوز وقتها السادسة عشر من عمره يرافقه كظله ليعتاد مجالس الرجال و صناعة القرار بمواقع المسؤولية المستقبلية التي ستقع على عاتقه . بدأت رحلته الأخيرة من قلب عاصمته عمان مرورا بنابلس حيث منزل اصدقاءه من( آل المصري ) الذين أشاروا عليه بالبقاء بتلك المدينة و الصلاة بأحد مساجدها و لكنه رفض و قال : الأقصى ..الأقصى! انطلق الموكب نحو مدينة القدس تحيطه وحدات الحماية و الأمن الخاصة وسط اجراءات امنية مشددة . استقبله اهل القدس بالتهليل والتأهيل وسط ملامح الفرح و تعالت هتافاتهم بالترحيب و التصفيق.. الى هنا بدى كل شئ عادي حتى وصل لساحة الأقصى متوجها مشيا على الأقدام و ما أن هم جلالته بالدخول من احد أبواب الحرم فاجأه شخص تقدم من خلف أحد الأعمدة كان يحمل بيده صحيفة و ما أن اصبح قريبا من الملك حتى ألقى الصحيفة من يده و أشهر فوهة مسدس نحوه و اطلق النار فأستقرت ثلاث رصاصات بصدر الملك و رأسه أسقطته مضرجا بدمائه و رصاصة اخرى كانت من نصيب الأمير الشاب (حسين) لكنها و لقدرة الله عز وجل و لحسن حظه ارتدت و انزلقت بسبب ارتدائه ميدالية (هدية من جده )كانت بمثابة درع حالت دون وصول الرصاصة لصدره لتنقذ حياته و لتكون القفزة التي نقلته من مرحلة الشباب الى مرحلة النضج و الرجولة و موقع المسؤولية و شاء القدر أن تكتب النجاة لهذا الشاب اليافع و لمملكة كان له فيها البصمة الأكبر و الدور و العلامة الأبرز ..عمت الضجة و الفوضى و الصخب و الصراخ و امتلأت الأجواء المقدسية و الحرم برائحة البارود جراء اطلاق العيارات النارية نتج عنها تصفية القاتل من قبل وحدات الحرس الملكي التي أحكمت السيطرة على الموقف و حماية الأمير الشاب الذي أصابه الذهول و الحزن و الوجوم و كان يصرخ (جدي.. جدي )!! فاحاطه المرافقون وتمت محاولة انقاذ الملك المصاب و نقله بواسطه مرافقيه و كان من بينهم العقيد (حابس المجالي ) الى مستشفى (الهوسبيس) و لكن شاء المولى أن تصعد روحه على احب أرض على قلبه و تم نقل جثمانه فورا بطائرة خاصة من مطار قلنديا قرب القدس الى عمان و تطويق منطقة الحرم و فرض حظر التجول على المنطقة و البدء فورا بسلسلة من التحقيقات حول أطراف و أقطاب تلك المؤامرة و البحث عن هوية القاتل و شركائه .. بعد ذلك تم القاء القبض على عشرة اشخاص و محاكمتهم و ادانة ستة منهم و براءة البقية الملك عبد الله الاول(رحمه الله ) مؤسس امارة شرق الأردن و المملكة الاردنية الهاشمية سقط شهيدا بجانب قبر والده المغفور له (الشريف حسين بن علي ) لم تشفع له مواقفه الوطنية ضد العدو الصهيوني و اعتبار القضية الفلسطينية قضيته و قضية كل مسلم و عربي و لم يقدر اطراف المؤامرة حرصه على المقدسات الإسلامية بالقدس و اشتراك جيشه بجميع الحروب التي خاضعها الشعب الفلسطيني و جهوده لمنع اقامة وطن قومي لليهود اضافة الى ما كان يتمتع به من صفات انسانية مميزة إذ كان شاعرا و أديبا واسع المعرفة و الإطلاع متحدثا لبقا جمع حوله الأدباء و العلماء و المفكرين و لديه عدة مؤلفات, الى جانب ذلك لم يهمل النواحي العسكرية فقد قام بتأسيس جيش عربي و عمل على تطويره ..عرف عنه ارتباطه بالتقليدية و مزجها بالحداثة فقام بتأسيس امارته ثم مملكته على أسس شرعية ديموقراطية.. كان رجلا حكيما صاحب رسالة هدفها نهضوي عربي شامل..كان يتمتع بقوة البصيرة.. هدفه الإتفاق السلمي.. و كانت له مقولة شهيرة بهذا الصدد (الصهيونية كالسرطان اذا لم تستطع أن تجتثه عليك أن تحدده ) هذه الرؤية المستقبلية التي لم يفهمها الكثيرون و لم يدرك مغزاها الا القليلون و لكن ... بعد فوات الأوان!!.
أبدعت اخت هدى..يعطيكي ألف عافية.
ردحذف